كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: أَنَّ الْحَمْدَ أَشْرَفُ السُّوَرِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ قال: وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَشْرَفُ فَالنَّصُّ وَالْمَعْنَى وَالْحَكَمُ: أَمَّا النَّصُّ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ غَيْرِهَا.
وعن أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «فَاتِحَةُ الْكِتَابُ شِفَاءٌ مِنْ السُّمِّ».
وقال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَنْزَلَ اللَّهُ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ مِنْ السَّمَاءِ أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْفُرْقَانَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ القرآن الْمُفَصَّلَ ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ. فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَمَنْ قرأهَا فَكَأَنَّمَا قرأ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالقرآن. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ قَابَلَهَا بِجَمِيعِ القرآن فَقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ}. وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا يُدَانِيهَا غَيْرُهَا فِيهَا قُلْت: هَذَا عَلَى قول مَنْ جَعَلَهَا هِيَ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ وَجَعَلَ القرآن الْعَظِيمَ جَمِيعَ القرآن.
قال: وَلِأَنَّهَا تُسَمَّى (أُمَّ القرآن) وَأُمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ وَمَادَّتُهُ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهَ مَكَّةَ (أُمَّ الْقُرَى) لِشَرَفِهَا عَلَيْهِنَّ. وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُورَةٌ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّحْمِيدِ لِلرَّبِّ تعالى وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ وَالدُّعَاءِ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى مَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقول اللَّهُ تعالى: «قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي» الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ.
قال: وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنَزِّلْ مِثْلَهَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَيَسَّرَ قراءتها عَلَى كُلِّ أحد مَا لَا يَتَيَسَّرُ غَيْرُهَا مِنْ القرآن.
وَتُضْرَبُ بِهَا الْأَمْثَالُ وَلِهَذَا يُقال: فُلَانٌ يَحْفَظُ الشَّيْءَ مِثْلَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَغَيْرُهَا لَا يُسَاوِيهَا فِي هَذَا فَاخْتَصَّتْ بِالشَّرَفِ وَلِأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي قال أَهْلُ التَّفْسِيرِ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تَثَنَّى قراءتها فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
قال بَعْضُهُمْ: ثُنِّيَ نُزُولُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْت: وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ.
قال: وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ تُسْتَحَبُّ قراءتها فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَيُكْرَهُ الْإِخْلَالُ بِهَا وَلَوْلَا أَنَّهَا أَشْرَفُ لَمَا اخْتَصَّتْ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَ الْمُنَازِعِينَ- يَعْنِي أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ- أَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِقراءتها وَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ. فَنَقول: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ رُكْنًا أَوْ لَيْسَتْ بِرُكْنِ فَإِنْ كَانَتْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا تُجْبَرَ بِالسُّجُودِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُكْنًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ سُجُودٌ.
قلت: يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِي حَالِ الْعَمْدِ فَإِذَا سَهَا عَنْهُ وَجَبَ لَهُ السُّجُودُ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَإِذَا تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ بِخِلَافِ مَنْ سَهَا عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ فَإِنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْبِرَ مَا تَرَكَهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ وَاجِبٌ لِأَنَّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ عِنْدَهُمْ مَا إذَا تَرَكَهُ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ. كَمَا لَا تَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ سَهْوًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ زَادَ عَمْدًا لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ. لَكِنَّ مَالِكًا وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا يَقولانِ:
مَا كَانَ وَاجِبًا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِذَا تَرَكَهُ سَهْوًا فَمِنْهُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَمِنْهُ مَا يَنْجَبِرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَرْكُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالقراءة يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَتَرْكُ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَيَجِبُ السُّجُودُ لِسَهْوِهِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَقول: الْوَاجِبُ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضِ- كَالْفَاتِحَةِ- إذَا تَرَكَهُ كَانَ مُسِيئًا وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. وَالشَّافِعِيُّ لَا يُفَرِّقُ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ. وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَجِّ هُوَ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قال إنَّ الْفَاتِحَةَ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَقال أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَمَّا قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي. «هَلْ تَعْلَمُ سُورَةً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَا فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي القرآن مِثْلَهَا؟» فَمَعْنَاهُ مِثْلُهَا فِي جَمْعِهَا لِمَعَانِي الْخَيْرِ لِأَنَّ فِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْحَمْدِ الَّذِي هُوَ لَهُ حَقِيقَةٌ لَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ وَخَيْرٍ مِنْهُ لَا مِنْ سِوَاهُ فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ حُمِدَ غَيْرُهُ فَإِلَيْهِ يَعُودُ الْحَمْدُ. وَفِيهَا التَّعْظِيمُ لَهُ وَأَنَّهُ الرَّبُّ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَالْمُسْتَعَانُ. وَفِيهَا تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ وَالْهُدَى وَمُجَانَبَةُ طَرِيقِ مَنْ ضَلَّ وَغَوَى. وَالدُّعَاءُ لُبَابُ الْعِبَادَةِ فَهِيَ أَجْمَعُ سُورَةٍ لِلْخَيْرِ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ مِثْلُهَا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ.
قال: وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَلَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا عَنْهَا. وَلَيْسَ هَذَا بِتَأْوِيلِ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ.
قلت: يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كَوْنُ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِئُ إلَّا بِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهَا أَفْضَلُ السُّوَرِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ تَفْضِيلِ القرآن عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ وَأَنَّ السَّلَفَ كُلَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقول الْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُفَضِّلُ القرآن عَلَى غَيْرِهِ قال اللَّهُ تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا القرآن وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.
{وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ} قِيلَ إنَّهُ مَصْدَرٌ وَقِيلَ إنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. قِيلَ: الْمَعْنَى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الِاقْتِصَاصِ كَمَا يُقال نُكَلِّمُك أَحْسَنَ التَّكْلِيمِ وَنُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ.
قال الزَّجَّاجُ: نَحْنُ نُبَيِّنُ لَك أَحْسَنَ الْبَيَانِ. وَالْقَاصُّ الَّذِي يَأْتِي بِالْقِصَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا.
قال وَقوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا القرآن} أَيْ بِوَحْيِنَا إلَيْك هَذَا القرآن وَمَنْ قال هَذَا قال بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْك هَذَا القرآن وَعَلَى هَذَا الْقول فَهُوَ كَقوله: نَقرأ عَلَيْك أَحْسَنَ القراءة وَنَتَلُوا عَلَيْك أَحْسَنَ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمَعْنَى نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ مَا يُقَصُّ أَيْ أَحْسَنَ الْأَخْبَارِ الْمَقْصُوصَاتِ كَمَا قال فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وَقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله فِي قِصَّةِ مُوسَى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} وَقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} الْمُرَادُ خَبَرُهُمْ وَنَبَؤُهُمْ وَحَدِيثُهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْمَصْدَرِ. وَالْقولانِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْمَعْنَى كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَنْصُوبَ قَدْ جَمَعَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ وَمَعْنَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُبَايِنُ فِيهَا الْفِعْلُ الْمَفْعُولَ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا انْتَصَبَ بِهَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ الْمَعْنَى الْآخَرُ. وَمَنْ رَجَّحَ الْأَوَّلَ مِنْ النُّحَاةِ- كَالزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ- قالوا: الْقَصَصُ مَصْدَرٌ يُقال قَصَّ أَثَرَهُ يَقُصُّهُ قَصَصًا وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}. وَكَذَلِكَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَتَقَصَّصَ وَقَدْ اقْتَصَصْت الْحَدِيثَ: رَوَيْته عَلَى وَجْهِهِ وَقَدْ اقْتَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ قَصَصًا. وَلَيْسَ الْقَصَصُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ قِصَّةٍ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يُقال فِي قِصَصٍ بِالْكَسْرِ وَأحدهُ قِصَّةٌ وَالْقِصَّةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُقَصُّ فِعْلَةُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ قِصَصٌ بِالْكَسْرِ. وَقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} بِالْفَتْحِ لَمْ يَقُلْ أَحْسَنَ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَلَكِنْ بَعْضُ النَّاسِ ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ قِصَّةُ يُوسُفَ وَذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ. ثُمَّ ذَكَرُوا: لِمَ سُمِّيَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ؟ فَقِيلَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي القرآن قِصَّةٌ تَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ مَا تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْقِصَّةُ.
وقيل: لِامْتِدَادِ الْأَوْقَاتِ بَيْنَ مُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا. وَقِيلَ لِحُسْنِ مُحَاوَرَةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِغْضَائِهِ عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَاطَوْهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَكَرَمِهِ فِي الْعَفْوِ. وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِيكِ وَالتُّجَّارِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَكْرِهِنَّ وَحِيَلِهِنَّ وَفِيهَا أَيْضًا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالسِّيَرِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالسِّيَاسَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ فَصَارَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقِيلَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ. وَقِيلَ {أَحْسَنُ} بِمَعْنَى أَعْجَبَ. وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ {الْقَصَصَ} بِالْفَتْحِ هُوَ النَّبَأُ وَالْخَبَرُ وَيَقولونَ هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَكِلَا الْقوليْنِ خَطَأٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقوله: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} قِصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا بَلْ هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَلِهَذَا قال تعالى فِي آخِرِ السُّورَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَاقِبَتُهُمْ بِالنَّصْرِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَلِهَذَا هِيَ أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي القرآن ثَنَّاهَا اللَّهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا؛ بَلْ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ- كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُرْسَلِينَ- أَعْظَمُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي القرآن وَلَمْ يُثَنِّ قِصَّةَ يُوسُفَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ عَادُوا يُوسُفَ لَمْ يُعَادُوهُ عَلَى الدِّينِ بَلْ عَادَوْهُ عَدَاوَةً دُنْيَوِيَّةً وَحَسَدُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ وَظَلَمُوهُ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَابْتُلِيَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَنْ ظَلَمَهُ وَبِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْفَاحِشَةِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَفِي هَذَا وَابْتُلِيَ أَيْضًا بِالْمُلْكِ فَابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَانَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ الْقَصَصِ الَّتِي لَمْ تُقَصَّ فِي القرآن فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يَظْلِمُونَ وَيَحْسُدُونَ وَيَدْعُونَ إلَى الْفَاحِشَةِ وَيُبْتَلَوْنَ بِالْمُلْكِ لَكِنْ لَيْسَ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي القرآن مِمَّنْ اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ مِثْلَ يُوسُفَ وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسَنَ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِثْلَ يُوسُفَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا هِيَ فِي جِنْسِهَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا. فَقِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحْسَنُ قَصَصِ الْمُلُوكِ وَقِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ أَحْسَنُ قَصَصِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ. فَقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا قَصَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا لَمْ يَقُصُّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنُ مَا قُصَّ فِي القرآن. وَأَيْنَ مَا جَرَى لِيُوسُفَ مِمَّا جَرَى لِمُوسَى وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الرُّسُلِ وَأَيْنَ مَا عُودِيَ أُولَئِكَ مِمَّا عُودِيَ فِيهِ يُوسُفُ وَأَيْنَ فَضْلُ أُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِمْ مِنْ يُوسُفَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ؟ وَأَيْنَ نَصْرُ أُولَئِكَ مِنْ نَصْرِ يُوسُفَ؟ فَإِنَّ يُوسُفَ كَمَا قال اللَّهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَأَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ ظَلَمُوهُ ثُمَّ تَابُوا فَكَانَ فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْمَظْلُومَ الْمَحْسُودَ إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ وَأَنَّ الظَّالِمَ الْحَاسِدَ قَدْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَعْفُو عَنْهُ وَأَنَّ الْمَظْلُومَ يَنْبَغِي لَهُ الْعَفْوُ عَنْ ظَالِمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ. وَبِهَذَا اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ لَهُ الَّذِينَ عَادُوهُ وَحَارَبُوهُ مِنْ الطُّلَقَاءِ- فَقال: «ماذا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» فَقالوا: نَقول أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ عَمٍّ كَرِيمٌ. فَقال: «إنِّي قَائِلٌ لَكُمْ كَمَا قال يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}». وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ لَمَّا ظُلِمَتْ وَافْتُرِيَ عَلَيْهَا وَقِيلَ لَهَا: إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَقالتْ فِي كَلَامِهَا: أَقول كَمَا قال أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}. فَفِي قِصَّةِ يُوسُفَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِبْرَةِ لِلْمَظْلُومِ وَالْمَحْسُودِ وَالْمُبْتَلَى بِدَوَاعِي الْفَوَاحِشِ وَالذُّنُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَكِنْ أَيْنَ قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ كَانَتْ قِصَّتُهُ أَنَّهُ دَعَا الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَكَذَّبُوهُ وَآذَوْهُ وَآذَوْا مَنْ آمَنَ بِهِ؟ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أُوذُوا اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فَعُودُوا وَأُوذُوا فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ بِاخْتِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْلَا إيمَانُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ الْخَلْقَ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ لَمَا أُوذُوا وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أُوذِيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا أُخِذَ يُوسُفُ مِنْ أَبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ مِحْنَةُ يُوسُفَ بِالنِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَاخْتِيَارِهِ السِّجْنَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ إيمَانِهِ وَدَرَجَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَجْرِهِ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ لَهُ؛ وَلِهَذَا يَعْظُمُ يُوسُفُ بِهَذَا أَعْظَمَ مِمَّا يَعْظُمُ بِذَلِكَ وَلِهَذَا قال تعالى فِيهِ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وَهَذَا كَالصَّبْرِ عَنْ الْمَعَاصِي مَعَ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ فَالْأَوَّلُ أَعْظَمُ وَهُوَ صَبْرُ الْمُتَّقِينَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.
قال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري: أَفْعَالُ الْبِرِّ يَفْعَلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَلَنْ يَصْبِرَ عَنْ الْمَعَاصِي إلَّا صِدِّيقٌ وَيُوسُفُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا. وَأَمَّا مَنْ يُظْلَمُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَيَصْبِرُ فَهَذَا كَثِيرٌ وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ. وَكَذَلِكَ إذَا مُكِّنَ الْمَظْلُومُ وَقَهَرَ ظَالِمَهُ فَتَابَ الظَّالِمُ وَخَضَعَ لَهُ فَعَفْوُهُ عَنْهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ لَكِنَّ هَذَا يَفْعَلُهُ خَلْقٌ كَثِيرُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَعُقَلَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ حِلْمَ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ أَجْمَعُ لِأَمْرِهِمْ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُمْ وَتَأْلِيفِهِمْ لِقُلُوبِ النَّاسِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ مِنْ أَحْلَمِ النَّاسِ وَكَانَ الْمَأْمُونُ حَلِيمًا حَتَّى كَانَ يَقول: لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَحَبَّتِي فِي الْعَفْوِ تَقَرَّبُوا إلى بِالذُّنُوبِ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَرَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ- وَهُوَ عَمُّهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ- عَفَا عَنْهُ. وَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى الْغَالِبِ لِلَّهِ لَا رَجَاءً لِمَخْلُوقِ وَلَا خَوْفًا مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ الدَّوَاعِي إلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَاخْتِيَارِهِ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قال يُوسُفُ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلى مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ} فَهَذَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ إلَّا فِي خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ كَمَا قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فَهَذَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الَّذِينَ قال اللَّهُ تعالى فِيهِمْ: {إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وَلِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ ذَنَبٌ أَصْلًا بَلْ الْهَمُّ الَّذِي هَمَّ بِهِ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ سبحانه تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ تَوْبَةَ الْأَنْبِيَاءِ كَآدَمَ ودَاوُد وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَنْ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فَاحِشَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَوْبَاتُهُمْ مِنْ أُمُورٍ أُخَرَ هِيَ حَسَنَاتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ لِيُوسُفَ نَظِيرٌ فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ دَوَاعِي الْفَاحِشَةِ وَتَقْوَاهُ وَصَبْرِهِ فِي ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: أمام عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ قَلْبُهُ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقال: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى لِئَلَّا يَفْعَلَ الْفَاحِشَةَ أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى ظُلْمِ إخْوَتِهِ فَكَيْفَ بِصَبْرِ الرُّسُلِ عَلَى أَذَى الْمُكَذِّبِينَ لِئَلَّا يَتْرُكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَهَذَا الصَّبْرُ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذْ كَانَ الْجِهَادُ مَقْصُودًا بِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَالْجِهَادُ وَالصَّبْرُ فِيهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ الإمام أَحْمَد وَالتِّرْمِذِي وَصَحَّحَهُ وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ الطَّوِيلِ- وَهُوَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ- فَالصَّبْرُ عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ صَبْرُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي هَجَرَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَصَبْرُ الْمُجَاهِدِ الَّذِي جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ وَجَاهَدَ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ وَالْمُهَاجِرُ الصَّابِرُ عَلَى تَرْكِ الذَّنْبِ إنَّمَا جَاهَدَ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ ثُمَّ يُجَاهِدُ عَدُوَّ اللَّهِ الظَّاهِرَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَصَبْرُ الْمَظْلُومِ صَبْرُ الْمُصَابِ. لَكِنَّ الْمُصَابَ بِمُصِيبَةٍ سَمَاوِيَّةٍ تَصْبِرُ نَفْسُهُ مَا لَا تَصْبِرُ نَفْسُ مَنْ ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ ذَاكَ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ هَذَا فَتَيْأَسُ نَفْسُهُ مِنْ الدَّفْعِ وَالْمُعَاقَبَةِ وَأَخْذِ الثَّأْرِ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي ظَلَمَهُ النَّاسُ فَإِنَّ نَفْسَهُ تَسْتَشْعِرُ أَنَّ ظَالِمَهُ يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَعُقُوبَتُهُ وَأَخْذُ ثَأْرِهِ مِنْهُ فَالصَّبْرُ عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ كَصَبْرِ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَهَذَا يَكُونُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ فَيَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ كَالْمَصَائِبِ السَّمَاوِيَّةِ وَيَكُونُ أَيْضًا لِيَنَالَ ثَوَابَ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَلِيُسْلِمَ قَلْبَهُ مِنْ الْغِلِّ لِلنَّاسِ وَكِلَا النَّوْعَيْنِ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَسْتَشْعِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِذُنُوبِهِ وَهُوَ مِمَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَتُوبُ وَأَيْضًا فَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْجَزَعَ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَإِنْ ارْتَقَى إلَى الرِّضَا رَأَى أَنَّ الرِّضَا جَنَّةُ الدُّنْيَا وَمُسْتَرَاحُ الْعَابِدِينَ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمِ. وَإِنْ رَأَى ذَلِكَ نِعْمَةً لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ وَدِينِهِ وَقُرْبِهِ إلَى اللَّهِ وَتَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ وَصَوْنَهُ عَنْ ذُنُوبٍ تَدْعُوهُ إلَيْهَا شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ شَكَرَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ. فَالْمَصَائِبُ السَّمَاوِيَّةُ وَالْآدَمِيَّةُ تَشْتَرِكُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَعِلْمُهُمْ بِهَا هُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْمَصَائِبِ وَغَيْرِهَا مُتَبَايِنَةً تَبَايُنًا عَظِيمًا. ثُمَّ إذَا شَهِدَ الْعَبْدُ الْقَدَرَ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَهُوَ الْخَالِقُ لَهُ فَهُوَ مَعَ الصَّبْرِ يُسَلِّمُ لِلرَّبِّ الْقَادِرِ الْمَالِكِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهَذَا حَالُ الصَّابِرِ وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ الْمُدَبِّرِ لَهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ الَّذِي «لَا يَقْضِي لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا تَسْلِيمُ رَاضٍ لِعِلْمِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ وَهَذَا يُورِثُ الشُّكْرَ. وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلرَّبِّ الْمُحْسِنِ إلَيْهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهِ بِنِعَمِ عَظِيمَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَرَ هَذَا نِعْمَةً فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ تَسْلِيمَ رَاضٍ غَيْرَ شَاكِرٍ. وَقَدْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَهُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فَإِنَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إلَّا لِحِكْمَةِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِمَحَبَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحَمْدِهِ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ. فَهَذَا تَسْلِيمُ عَبْدٍ عَابِدٍ حَامِدٍ وَهَذَا مِنْ الْحَامِدِينَ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ وَمِنْ بَيْنِهِمْ صَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ. وَهَذَا يَكُونُ الْقَضَاءُ خَيْرًا لَهُ وَنِعْمَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْهِ. لَكِنْ يَكُونُ حَمْدُهُ لِلَّهِ وَرِضَاهُ بِقَضَائِهِ مِنْ حَيْثُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ وَعَبَدَهُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَيَكُونُ صَبْرُهُ وَرِضَاهُ وَحَمْدُهُ مِنْ عِبَادَتِهِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَهَذَا يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْإِلَهُ عِنْدَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا مُجَرَّدَ رُبُوبِيَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَوْ مُجَرَّدَ إحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ فَإِنَّهُمَا مَشْهَدَانِ نَاقِصَانِ قَاصِرَانِ وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِمَا مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ بِاَللَّهِ وَبِدِينِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَشْهَدُ أُولَئِكَ وَالثَّانِي مَشْهَدُ هَؤُلَاءِ وَشُهُودُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ مَعَ شُهُودِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ مَعَ شُهُودِ إلَهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَحَمْدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَمَجْدِهِ هُوَ مَشْهَدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ لِلسَّابِقِينَ الأولين مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ فِي عُمُومِ الْمَصَائِبِ وَمَا يَكُونُ بِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُ فِيهِ كَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ. وَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ هَذَا وَأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرُ عَنْ الْفَاحِشَةِ مَعَ قُوَّةِ الدَّاعِي إلَيْهَا فَهَذَا الصَّبْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرِ بَلْ وَأَعْظَمُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ. وَلِهَذَا قال سبحانه فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} فَوَصَفَهُمْ بِالْكَرَمِ وَالْحِلْمِ وَبِالْإِنْفَاقِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنْ النَّاسِ. ثُمَّ لَمَّا جَاءَتْ الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَاتُ وَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَقال: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} فَوَصَفَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا وَتَرْكِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا لَا بِتَرْكِ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ: فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَزِنَاهَا السَّمْعُ وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْمَنْطِقُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ». وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». فلابد لِلْإِنْسَانِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْكَبِيرَةِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقَعُ فِي الْكَبِيرَةِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ وَيُؤْمَرُونَ أَنْ لَا يُصِرُّوا عَلَى صَغِيرَةٍ فَإِنَّهُ لَا صَغِيرَةَ مَعَ إصْرَارٍ وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ. وَيُوسُفُ صلى الله عليه وسلم صَبَرَ عَلَى الذَّنْبِ مُطْلَقًا وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا هَمٌّ تَرَكَهُ لِلَّهِ كَتَبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةً. وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ بَعْضُ الْمُقَدِّمَاتِ مِثْلَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ وَالْجُلُوسِ مَجْلِسَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَنْقولا نَقْلًا يُصَدَّقُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِثْلَ هَذِهِ الإسْرائيليَّاتِ إذَا لَمْ تُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهَا وَلَا تَكْذِيبُهَا إلَّا بِدَلِيلِ وَاَللَّهُ تعالى يَقول فِي القرآن: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} فَدَلَّ القرآن عَلَى أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ قَدْ فَعَلَ صَغِيرَةً لَتَابَ مِنْهَا. وَالقرآن لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَوْبَتِهِ. وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَدْ صُرِفَ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ قَدْ وَقَعَ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهُ وَالقرآن يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ هَذَا. وَقَدْ شَهِدَتْ النِّسْوَةُ لَهُ أَنَّهُنَّ مَا عَلِمْنَ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَلَوْ كَانَ قَدْ بَدَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ لَكَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ رَأَتْ ذَلِكَ وَهِيَ مِنْ النِّسْوَةِ اللَّاتِي شَهِدْنَ وَقُلْنَ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وَقالتْ مَعَ ذَلِكَ: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} وَقالتْ: {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}. وَقوله: {سُوءٍ} نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تَرَ مِنْهُ سُوءًا فَإِنَّ الْهَمَّ فِي الْقَلْبِ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ وَلَوْ اطَّلَعَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذًا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ حَسَنَةً وَلَوْ تَرَكَهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً فَإِنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ إلَّا مَعَ الْقول أَوْ الْعَمَلِ. وَأَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ أَعْظَمُ وَالْوَاقِعُ فِيهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمَا فَعَلَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَإِظْهَارِ آيَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَمُجَاهَدَةِ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْأَجْمَعِينَ وَمَا صَبَرُوا عَلَيْهِ وَعَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي صَبَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ وَعِبَادَتُهُمْ لِلَّهِ وَطَاعَتُهُمْ وَتَقْوَاهُمْ وَصَبْرُهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ أَعْظَمُ مِنْ طَاعَةِ يُوسُفَ وَعِبَادَتِهِ وَتَقْوَاهُ أُولَئِكَ أُولُوا الْعَزْمِ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِالذِّكْرِ فِي قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وَقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ تَطْلُبُ مِنْهُمْ الْأُمَمُ الشَّفَاعَةَ وَبِهِمْ أَمَرَ خَاتَمُ الرُّسُلِ أَنْ يُقْتَدَى فِي الصَّبْرِ فَقِيلَ لَهُ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} فَقِصَصُهُمْ أَحْسَنُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ؛ وَلِهَذَا ثَنَّاهَا اللَّهُ فِي القرآن لاسيما قِصَّةُ مُوسَى.